لا تكون الأمة موحَّدة
إلا إذا كانت موحِّدة
الحمد لله
اعلموا عباد الله! أنه لا تكون الأمةُ موحَّدةً إلا إذا كانت موحِّدةً، إنً كلمة التوحيد هي أساسُ توحيدِ الكلمة، وكلمةُ التوحيد هي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، كلمةُ التوحيد هي إخلاص العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، وتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، كلمة التوحيد كما علمها وتعلمها وعمل بها السلف الصالح من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وتلاميذهم وما عاش في القرون الثلاثة المفضلة رحمهم الله تعالى.
إن العرب أبناءَ الجلدةِ الواحدة، وأبناءَ اللغةِ الواحدة، وأبناءَ البيئةِ والوطنِ الواحدِ؛ كانوا متفرقين، متنازعين متخاصمين، تدور بينهم الحروبُ والثاراتُ عشراتِ السنين لأتفه الأسباب، فما قِصةُ حربِ داحس والغبراء، وحربِ البسوس؛ منكم ببعيد.
العربُ كانت تحتقرهم الفرسُ والروم، ويستذلونهم، وقد يعطفون عليهم بفتات من حطام الدنيا.
جاءتهم كلمةُ التوحيدِ من ربهم الرحمنِ الرحيم، فوحَّدتهم، فصاروا أمةً موحِّدةً موحَّدة، أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، لا يعبدون غيرَه ولا معه مَلَكا ولا جِنًّا ولا إنسا، لا يعبدون مَلكا مُقرّبا، ولا نبيًّا مرسَلا، ولا وليًّا صالحا، ولا يعظِّمون قبرا ولا ضريحا ولا مقاما، صلاتُهم وصيامُهم وزكاتُهم وحجُّهم لله وحده، طوافُهم حول البيت العتيق؛ الكعبةِ فقط، أما توكلُهم وخوفهم ورجاؤهم، وما ينذرون وما يذبحون فلله وحده، ممتثلين قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163)
نَبْعُهم ومَعِينُهم الصافي من نبيهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لا يعرفون وحيَ الله من غيره، وغيرُه من الصحابة والعلماء مفسِّرٌ وموضِّح ومبين، لا مشرِّع.
سامعين مطيعين له صلى الله عليه وسلم، فطاعته مقدمةٌ على طاعةِ الآباءِ والزعماء، والمشايخ والعظماء.
إنهم اعتصموا بحبل الله جميعا فلم يتفرقوا، عاملين بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103)
فأصبح العربُ الحفاةُ العراةُ الرعاءُ المتقاتلون، الذين كانوا على شفا حفرة من النار؛ أصبحوا بنعمة الله إخوانا، وبعد أن كانوا أعداءً؛ ألَّف الله بين قلوبهم، فكانوا أمة موحِّدة، فحُقَّ لهم أن يكونوا أمةً واحدةً موحَّدة.تخشاهم أعتى أمتين في ذلك الزمان، الفرس والروم.
بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ دانت الجزيرة العربية لأبي بكر الصديق، وفي عهد عمرَ الفاروقِ ذَلَّت له فارس والشام من بلاد الروم، وفي عهد عثمان ذي النورين حاول التوسُّع أكثر، ولكن حال الثوارُ دون ذلك، وقتلوه في بيته قتلهم الله، وكثرت الفتن التي لم تؤثر على توحيد الأمة ووحدتها؛ ولكن أثرت على توسعها وانتشارها، فانشغل علي الحيدرة بفتنة أهل الشام من جهة، وثوارِ الخوارجِ ورؤوسِ الرافضةِ من جهة أخرى.
وفي عهد الحسن بن علي كان عامُ الجماعة، وذلك بتنازله عن الخلافة والملك لكاتب الوحي، وخالِ المؤمنين؛ معاوية بنِ أبي سفيان، رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وأمه، وأخيه وأخته؛ أم المؤمنين، أمِّ حبيبةَ رملةَ بنتِ أبي سفيان.
وبهذا يكون قد انتهى عهد النبوةِ والخلافةِ الراشدة، وبدأ عهدُ الملك العضوض بتولي معاوية رضي الله تعالى عنه الخلافة، فأُخمدت نارُ الفتن الداخلية، وتفرغت الدولة الموحِّدة الموحَّدة لنشر هذا الدين في ربوع المعمورة؛ شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وبقيت كذلك إلى الدولة العثمانية، سوى بعض الهنَات التي لم تؤثر على وحدة الأمة، ولم تؤدِّ إلى تمزيقها وتفتُّتِها إلى دويلات.
ترهَّلَت الأمة عندما ابتعدت عن منهج سلفها الصالح، وتمزَّقت عندما تركت السيرَ على خُطى أمِّة التوحيدِ في العصر النبوي، وعصر الخلافة الراشدة، فوقعت في الملك العضوض؛ وهي أمة موحِّدةٌ موحَّدةٌ منذ الدولة الأموية، وإلى نهاية الدولة العثمانية، وإن تخلَّل ذلك فتنٌ وتفرقٌ لا يُذكر في تشتُّتِ الأمة وتمزيقها إلى دويلات.
ثم جاء الملك الجبري فغابت أو غُيِّبت الأمةُ الموحِّدة، فلم تصبح موحَّدة، بل تفرقت إلى دويلاتٍ ضعيفة، خيراتُها لا تُعدُّ ولا تحصى، تحت قدميها، وتستجدي رزقها من عدوِّها؛ إن شاء منعها، وإن شاء منحها!
وكلما ابتعدنا عن عصر النبوة والخلافة الراشدة؛ كلما ضَعُف التوحيدُ في النفوس، وظهرت البدع والخزعبلات والترهات، وأُدخِل في دين الله ما ليس منه، وصار التوكل على غير الله، والاستعانة بالمقبورين، [
- ومن أوضح الحجج على أن أكثر الناس صاروا قبورية لجهلهم بالتوحيد- ما ذكره علماء الحنفية: من أن التتار لما أغاروا على بلاد الشام-؛ كان القبوريةُ يخرجون يستغيثون بالموتى عند القبور، يرجون عندها كشف الضرِّ، ودفعَ التتار؛ ولذا قال بعض شعراء القبورية:
يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر
وفي لفظ:
عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجكيم من الضرر
وقد صرح علماء الحنفية بعد ذكر هذه القصة المؤلمة أيضًا:
أن أهل العلم والفضل والفهم ممن كانوا يدركون الأمور ويعرفون الواقع لم يشتركوا أولاً في قتال التتار؛ ولم ينجح القبورية بل التتار غلبوهم؛ لأنَّ القيادةَ كانت بأيدي القبوريةِ المستغيثين بالأموات، ولكن لما نُصِحوا وقبِلوا النصيحة ونُبِّهوا؛ انتبهوا، وأخلصوا الدعاء لله تعالى، وجاهدوا التتار بقيادة شيخ الإسلام =ابن تيمية= فنصرهم الله تعالى على التتار.
لأن الجهاد في المرة الأولى لم تكن فيه فائدة لا دينية ولا دنيوية؛ لعدم القتال الشرعي]. جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية (1/ 458، 459)
وشُيِّدت الأضرحة، وقُدِّسَت المقامات، وطاف الناس بالقبور، وقادوا إليها الذبائح والقرابين، وحلفوا بغير الله سبحانه، ونذروا لغير الله، وابتدعوا أذكارا وحركاتٍٍ يتقربون بها إلى الله، ليست من دين الله، ولا من شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وضعُف في القلوب تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقدموا المذاهب والآراء والأفكار –بجهل أو عناد- على القرآن والحديث وقول السلف، فتنابزوا بالألقاب، فهذا يتهم هذا بإضاعة الدين، وذاك يتهم هذا بإضاعة الوطن والعروبة، وهذا يسقط هذا من الانتساب إلى السلفية مثلا، ويحتكرها لنفسه، وذاك يخرج على الجميع فيكفرهم، وآخر يبدعهم ويفسقم، وهو ليس أهلا لمثل هذه الأحكام.
وتنافسوا في الابتداع، حتى قيل: (كل شيخ وله طريقة!) وزعموا أنه [لا يجوز للحنفي أن يتزوج بالمرأة الشافعية، وتسامح بعضهم -زعموا- فأجاز ذلك دون العكس، وعلل ذلك بقوله: تنـزيلا لها منـزلة أهل الكتاب، =قال الألباني:= وأعرف شخصا من شيوخ الحنفية، خطبَ ابنتَه رجلٌ من شيوخِ الشافعية فأبى قائلا: ... لولا أنك شافعي..]. متن الطحاوية بتعليق الألباني (ص: 62).
وترك بعضهم الصلاة خلفَ بعض، فكان حولَ الكعبةِ أربعةُ أئمةٍ لكل صلاة، فينادي المنادي: الصلاة على مذهب أبي حنيفة؛ فيتقدم الأحناف، ثم بعدهم تقام صلاة المالكية والشافعية والحنابلة!!
في مكة المكرمة؛ ما اجتمعوا على إمام واحد يصلي بهم إلا في عهد الدولة السعودية، منذ مائتي عام إلى اليوم، فجزاهم الله خير الجزاء.
****************
عندما أبعد الناس عن الإخلاص في التوحيد والعبادة، ولم يجرِّدوا المتابعةَ لنبي الله صلى الله عليه وسلم؛ تمزقت هذه الأمة وتفرقت، وعادت إلى التنازع والاقتتال فيما بينها لأتفه الأسباب، وطمعت فيهم الأمم وتكالبت عليهم تكالب الأكلة إلى قصعتها، تصديقا لحديث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». سنن أبي داود (4297).
تداعت عليهم الأمم؛ فاغتصبوا أرضهم وديارهم، ونهبوا أموالهم بعدما احتلوا قلوبهم وغزوا نفوسهم، فمسخ كثير من هذه الأمة؛ فمنهم من انسلخ عن دينه وقوميته وعروبته.
ومنهم من خلط الإسلام بأفكار من الغرب والشرق، فخرج لنا بمزيج من العقائد والأفكار لا يعرفها العرب ولا المسلمون؛ من الفلسفة وعلم الكلام.
ومنهم من تشبه بغير المسلمين في كل حياته من ألفها إلى يائها، فلا يرى في بيوت الله إن رأيناه إلا في الجمع أو الأعياد.
ومنهم في هذا العصر من تمسك ببقايا الآثار، والتقاليد والأعراف والعادت العربية الأصيلة، وتمسك بأصول الدين والتوحيد والأخلاق، ولم يمنعه ذلك من مواكبة الرقي والتقدم المدني والعمراني، ومسابقة الغرب والشرق والتفوق عليهم في بعض الأحيان، فبنى الدولة من الصفر، وعمر بنيانها، وشق طرقها، وحث أرضها، واستجلب القوى العاملة من أماكن شتى، وصان العلوم والمعارف الشرعية والدنيوية فأنشأ المعاهد والجامعات، وشجع على مختلف منارات العلم، وهم أهل جزيرة العرب، وحماة التوحيد، وحراس مكة المكرمة والمدينة المنورة، على ساكنها أزكى الصلاة وأتمَّ التسليم.
وهانحن نتلظى ونكتوي بنار البعد عن ديننا الحنيف، ومنهج سلفنا الصالح، فلا أمة موحَّدة دون أن تكون موحِّدة، نرى اليوم -ومنذ زمن- ونشاهد مدى اتساع التفرق والتشرذم والانقسام، فهاهي دول الإسلام والعرب تتمزق أكثر وأكثر، فبعد ذهاب فلسطين وابتلاعها، هاهم قد اغتصبوا العراق فمزقوه، وأثاروا النعرات في الدولة الواحدة، فقسموا السودان، وأصبحت مصر وتونس بلا رئيس ولا أمن، وفي ليبيا الحرب سجال، واليمن السعيد اليوم لم يصبح سعيدا، وحدِّثْ -ولا حرج- عن شلالات دماء المواطنين في سوريا، والحبل على الجرار كما يقولون، ونسأل الله السلامة للأمة جمعاء، ولكن وعد الله آت لا محالة، ويحتاج منا التشمير عن ساعد الجد والاجتهاد، قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (النور: 55، 56)
فلا بد للخروج من هذه الدوامة من التوحيد الصادق، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنهاء الانقسام والاختلاف من بيننا وأن نكون يدا واحدة على من سوانا، ونكرس الصلح والمصالحة رغم أنوف أعدائنا، وأن نترفع عن أشخاصنا وذواتنا في سبيل نصرة ديننا وأمتنا وأوطاننا، وأن نركز على حضور مجالس العلم التي بها تضاء طريقنا إلى محاب الله ورضوانه، والفوز بجنانه.
ألف بين الحروف والكلمات
أبو المنذر فؤاد بن يوسف
الزعفران الوسطى غزة فلسطين
24 جمادى الآخرة 1432 هلالية وفق 27 مايو أيار 2011 شمسية
للتواصل مع الشيخ عبر البريد الالكتروني:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]