تفسير سورة الأعلى
مكية و آياتها تسع عشرة آية
( سبح اسم ربك الأعلى ) أي نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد و الشريك و نحوهما , كقوله " سبحان ربك ربّ العزّة عمّا يصفون " . و الأعلى صفة للرب تبارك و تعالى دالة على علوه على خلقه فالخلق كله تحته و هو قاهر له و حاكم فيه .
( الذي خلق فسوّى ) أي أوجد من العدم المخلوقات و سوّى خلقها كل مخلوق في أحسن الهيئات , فعدل أجزاءه و سوّى بينها فلا تفاوت فيها , و يدل هذا على أنه صادر عن عالم , و إنه صنعة حكيم كما قال الزمخشري .
( و الذي قدر فهدى ) أي قدّر الأشياء في كتاب المقادير من خير و غيره و هدى كل مخلوق إلى ما قدره له أو عليه فهو طالب له حتى يدركه في زمانه و مكانه و على الصورة التي قدر عليها . قال صلى الله عليه و سلم : " إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة , و كان عرشه على الماء " رواه مسلم .
( و الذي أخرج المرعى ) أي : أنزل من السماء ماء فأنبت به أنواع النبات و العشب الكثير , فرتع فيها الناس و البهائم و كل حيوان .
( فجعله غثاء أحوى ) أي جعله بعد خضرته و نضرته جافا يابسا تطير به الريح , و " أحوى " أي أسود , لأن النبات إذا يبس تغيّر إلى " الحوّة " و هي السواد .
هذه خمس آيات , الآية الأولى تضمنت الأمر بتنزيه إسم الله , و الأربع بعدها في التعريف به سبحانه و تعالى حتى يعظم إسمه و تعظيم ذاته و تنزه عن الشريك و الصحابة و الولد .
( سنقرئك فلا تنسى ) قال الزمخشري : بشره الله بإعطاء آية بينة , و هي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي , و هو أميّ لا يكتب و لا يقرأ , فيحفظه و لا ينساه .
و هذه بشارة كبيرة لعبده و رسوله محمد صلى الله عليه و سلم , أن الله سيعلمه علما لا ينساه . قال الرازي : هذه آية تدل على المعجزة من وجهين : - إحداهما : إنه كان رجلا أميّا فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة و لا تكرار و لا كتبة , خارق للعادة , فيكون معجزا . – ثانيهما : إن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة , فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل , و قد وقع , فكان هذا إخبارا عن الغيب , فيكون معجزا .
( إلا ما شاء الله ) مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة , مثل قوله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها ألم تعلم بأن الله على كل شيء قدير "
( إنه يعلم الجهر و ما يخفى ) أي : يعلم ما يجهر به العباد و ما يخفونه من أقوالهم و أفعالهم , لا يخفى عليه من ذلك شيء .
( و نيسرك لليسرى ) أي نسهل عليك أفعال الخير و أقواله , و نشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا , لا اعوجاج فيه و لا حرج و لا عسر .
( فذكّر إن نفعت الذكرى ) أي ذكّر بشرع الله و آياته مادامت الذكرى مقبولة , و الموعظة مسموعة , سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه .
و مفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى , بأن كان التذكير يزيد في الشر , أو ينقص من الخير , لم تكن الذكرى مأمورا بها , بل منهيا عنها , فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين : منتفعون و غير منتفعين .
فأما المنتفعون , فقد ذكرهم الله بقوله ( سيذّكر من يخشى ) أي سيذكّر و يتعظ من يخشى عقاب الله لإيمانه به و معرفته له .
و أما غير المنتفعين فذكرهم بقوله ( و يتجنّبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ) أي يدخل النار الكبرى نار يوم القيامة .
( ثم لا يموت فيها و لا يحيى ) أي لا يموت فيستريح و لا يحيا حياة تنفعه , بل هي مضرة عليه , لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب , و أنواع النكال . قال الله تعالى " لا يُقضى عليهم فيموتوا و لا يُخفف عنهم من عذابها " , و قال صلى الله عليه و سلم " أما أهل النار الذي هم أهلها , فإنهم لا يموتون فيها و لا يحيون ... " رواه مسلم .
( قد أفلح من تزكى ) أي فاز و ظفر من تطهر من دنس الشرك و المعاصي , و عمل بما أمره الله به .
( و ذكر اسم ربه فصلى ) أي : إتصف بذكر الله , و انصبغ به قلبه , فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله , خصوصا الصلاة , التي هي ميزان الإيمان .
( بل تؤثرون الحياة الدنيا ) أي تقدمونها على الآخرة , و تختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على الآخرة .
( و الآخرة خير و أبقى ) أي : ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا و أبقى , فإن الدنيا دنيّة فانية , و الآخرة شريفة باقية , فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى , و يهتم بما يزول عنه قريبا , و يترك الإهتمام بدار البقاء و الخلد ؟!
( إن هذا لفي الصحف الأولى , صحف إبراهيم و موسى ) أي إن قوله تعالى " قد أفلح من تزكى " إلى قوله " خير و أبقى " مذكور في كل من صحف إبراهيم و كانت له عشر صحف و لموسى التوراة